ترتبط قصة حديقة النحت الصحراوي المثيرة على حافة جرن رمون في استيطان النقب، والاعتراف العالمي في الفنّ الإسرائيليّ والفنّانين الإسرائيليين، وعلاقة الفنّانين العميقة بتاريخ البلاد ومناظرها وتطور الفنون الإسرائيليّة.
خلفية
في عام 1959 عُقدت في سانت مارغريت في النمسا الندوة العالميّة الأولى للنحت، بمبادرة النحات النمساوي كارل پرانتل، بهدف خلق الحوار والتقارب بين فنّانين من دول وقوميات مختلفة، على خلفية الاغتراب والبعد الناتجين عن الحرب الباردة. كما هدفت الندوة إلى تشجيع الفنانين على الخروج من بين جدران الاستوديو والجاليري والعمل في الفضاء المفتوح.
منذ ذلك الوقت، انتشرت ندوات النحت، وجرى تنظيم ندوات مماثلة في أرجاء العالم على مر السنين، بدءًا من ألمانيا وفرنسا، ومرورًا في الولايات المتحدة واليابان، وحتى كوريا الجنوبية وأستراليا. كما تحولت تلك الندوات في بعض الأماكن إلى حدث دائم.
إقامة الحديقة
في العام 1960 جرى استدعاء الفنّان الإسرائيليّ قوسو إيلول للمشاركة في ندوة النحت العالميّة الثانية في سانت مارغريت. هذا الدمج بين التقاء فنانين من قوميات مختلفة والعمل الفنّيّ في الفضاء البدائيّ المفتوح سحر عقله، مما دعاه إلى الاعتقاد بأنّ عقد ندوة مماثلة في البلاد سوف يؤدي إلى اعتراف عالميّ في الفن الإسرائيليّ. فقام إيلول بدعوة سبعة من الفنانين الذين تعرف عليهم خلال الندوة في النمسا، والذين أصبحوا فيما بعد فنانين مشهورين، للمشاركة في ندوة النحت الأولى في البلاد (أشار الكتالوج الأول لهذه الندوة أّنه جرى اختيار الفنانين من قبل لجنة مختصين تشكلت خصيصًا لهذا الغرض، ولكن الحقيقة أنّ إيلول كان قد تعرف عليهم خلال ندوة النمسا). إضافة إلى هؤلاء الفنانين، دعا إيلول أثنين من الفنانين الإسرائيليين: دوڤ فايغن و موشيه شترنشوس.
يَجَر سَهْدوثا
تم اختيار أسم “يَجَر سَهْدوثا” للندوة التي أقيمت عام 1962، و”الذي جاء ليرمز إلى التحالف… بين فنانين من شعوب مختلفة، جاؤوا للعمل معًا”، كما جاء في الكتالوج الأول للندوة. وهذا هو الاسم الذي منحه لابان الآراميّ للرجمة التي أقامها مع يعقوب، شهادة على العهد بينهما: “وقال يعقوب لاخوتِه التقطوا حجارةً. فاخذوا حجارةً وعملوا رجمةً وأكلوا هناك على الرجمة. ودعاها لابان يَجَر سَهْدوثا. وأما يعقوب فدعاها جَلْعيد” (التكوين، الاصحاح 31، 46-74).
فضلًا عن التحالف الذي يمثله الاسم الآرامي بين “فنانين من شعوب مختلفة”، فهو يمثل العلاقة القديمة للإسرائيليّ الجديد مع بلاده. في مقدمة الكتالوج الثاني للندوة كتب المعماريّ آبا إلحنان، الذي كان رئيس قسم الفنون التشكيليّة في المجلس العام للثقافة والفنون: “منذ القدم اعتبر الإنسان لغة الفن لغة عالميّة مُوحّدة تُقرّب بين الناس والشعوب”.
جرى تسويغ اختيار متسبيه رمون بفخامة مناظر صحراء القديمة. وبالفعل، لا أحد يعترض على عظمة منظر الجرن، التي تتجسد في الأعمال الفنّيّة للمشاركين في ندوة 1962.
الفن بذاته لم يكن بالطبع أقل أهميّة، وكان أحد الأهداف المُعلنة للحدث في متسبيه رمون. وكما جاء في الكتالوج الأول، “التماثيل في الفضاء المفتوح تُقربنا من الفن ليس أقل من المتاحف الكبيرة والهامة والثمينة”. كما لم يتم إغفال الجانب الاقتصاديّ السياحيّ، حيث جاء في الكتالوج الأول: “ليس ثمة شك بأنّ حديقة التماثيل في النقب سوف تشكل مركز اهتمام السواح المتحضرين”.
سكن الفنانون العشرة الذين جاؤوا إلى متسبيه رَمون في ربيع 1962 في البلدة في ظل ظروف طلائيعيّة خلال عشرة أسابيع. شعر سكان البلدة خلال هذه الفترة، وخاصة الأطفال، أنهم شركاء كاملين في العمل الفنّيّ. اختار كل فنّان المادة التي سيعمل بها. اختار خمسة فنّانين (أُغوستين كارديناس، قوسو إيلول، موشيه شترنشوس، يانز لينسي وكارل ڀرانتل) العمل بالحجر الجيري، بينما اختار كل واحد من الآخرين العمل مع مادة مختلفة: دوڤ فايغن عمل مع الكركار، ياسو ميزويْ عمل مع الحجر الدولوميتي، باتريسيا ديسكه عملت مع الجرانيت الذي أُحضر من منطقة إيلات، جوزيف ڨايس عمل مع البازلت، جاك موسكال عمل مع الإسمنت.
المنحوتات التي تم إنشاؤها في ندوة 1962 هي أعمال تجريديّة بما يتلاءم مع روح النحت في النصف الثاني من القرن العشرين. باستثناء منحوتات كارديناس وميزويْ وفايغن المُتأثرة بالسرياليّة، فإنّ معظمها بتأثير الكنعانيّة، بحيث تخضع للتشكيل الهندسيّ الذي شاع في الفنون الأوروبيّة والأمريكيّة في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي. المنحوتات هي عبارة عن أشكال في الفضاء، تذكاريّة، ترتفع إلى الأعلى، وكل منحوتة قائمة بحد ذاتها. صحيح أنها جميعها تتواصل مع المشهد الذي تطل عليه، لكنه تواصل شاعريّ ومجازيّ في الأساس.
مبادرة المرحلة الثانية
خلال 25 سنة بقيت منطقة التماثيل مهملة، بل واستخدمت كموقعٍ للقمامة ومكبٍ لمُخلّفات البناء. في أواسط الثمانينيّات قرر عزرا أوريون، من “مدريشت بن غوريون” والفنان المشهور بحد ذاته، إعادة تأهيل الموقع وصيانته، بواسطة مجموعة من التماثيل الهندسيّة من عمل فنانين إسرائيليين معاصرين.
كمنسق مشرف على الحديقة قام أوريون بتجنيد مؤسسة الكيرن قييمت، والتي بدأت في تنظيف الموقع. في المرحلة الأولى دعا أوريون ستة فنّانين (دوڤ هيلر، حاڤا محوتن، داڤيد فاين، نوعام ربينوڤيتش وإيتسو ريمر) للانضمام إليه. بناءً على قرار المنسق المشرف، والذي كان مقبولًا على الجميع وملائمًا لتوجهاتهم الفنّيّة، تقرر أن تصبوا التماثيل إلى خلق الحوار مع معالم المنطقة، وأن يجري استخدام الصخور المحليّة، من مخلفات المحاجر التي كانت شمال البلدة. جرى تخصيص مساحة 100/100 مترًا لكل فنّان على حافة الجرف.
في ربيع 1986 نُظمت الجولة الأولى في المنطقة، حيث اختار كل فنان موقعًا لإنشاء تمثاله. وفي نفس السنة جرى تنظيم المزيد من الجولات للتعرف على المنطقة ولاختيار الصخور المناسبة، وخصص لكل فنّان ثلاثين قطعة من الصخور. في نهاية شهر آب 1986 وخلال أسبوعين تقريبّا وضعت التماثل في المكان المخصص بواسطة معدات ثقيلة تابعة لمؤسسة الكيرن قييمت.
في عام 1988 جرى إقامة تمثالين آخرين للفنّانين: برني فينك وشلول سالو، بعد فترة تأخر لأسباب مختلفة. وفي العام 1990 أقيم التمثال الثاني لنوعام ربينوڤيتش (عامود رقم 8331 خط – أزرق)، وفي عام 1995 وفي إطار أحداث “التعايش” في متسبيه رمون وبمبادرة الفنّان يغال عوزري وبمساعدة أوريون، وضع ميخا أولمان تمثاله “زراوندية”.
تجربة الزيارة
يستطيع الزائر ملاحظة الفرق الكبير بين التماثيل من العام 1962 وبين تلك من سنوات الثمانينيّات بسهولة، وأكثر ما يبرز للعين هو الفرق في التوجّه الأساسيّ للعمليّة الفنّيّة. فقد عمل فنّانو المرحلة الأولى على قطعة حجرٍ واحدة منتصبةٍ نحو الأعلى، رغم أنّ جميع التماثيل شُغلت بلغة حداثيّة تجريديّة. نحت الفنّانون أو حفروا أعمالهم في الحجر، على أساس النهج الكلاسيكيّ لعمليّة الانتقاص، وخاصة بواسطة المطرقة والإزميل. بينما عمل فنّانو الثمانينيّات على توزيع الصخور الخام، والآثار الوحيدة لفعل اليد البشريّة الظاهرة على الصخر هي آثار أدوات المحجَر. جرى انجاز غالبية التماثيل عن طريق موضعة الحجارة في المنطقة من خلال استخدام تضاريس موقع التمثال، إلى درجة تمازج بعض الأعمال في التضاريس.
يتجلى الفرق الآخر في اختيار الحجارة: فقد اختار فنّانو المرحلة الأولى تشكيلة من المواد الخام، وبضمنها الكركار، الجرانيت، البازلت وحتى الإسمنت. أما فنّانو الثمانينيّات فقد استخدموا صخر الدولوميت المحليّ الضخم. يدل اختلاف اختيار المواد على الفرق في الموقف الأساسيّ من النحت في المشهد الطبيعيّ. رغم تأثير منظر الجُرن الخلاب على أعمالهم، اهتم فنّانو ندوة 1962 في العمل الفنّي على نحو خاص، وأقل من ذلك في علاقة العمل مع البيئة العيّنيّة التي وُضع فيها. في عام 1986 اتخذ الفنّانون توجهًا يضع البيئة الطبيعيّة والجيولوجيّة والإنسانيّة على مستوى أهميّة التعبير الذاتيّ نفسه. وبالفعل، فإنّ أغلبهم حوّل بنيّة وشكليّة المنطقة إلى جزء لا يتجزأ من أعمالهم الفنّيّة.
في الكتالوج الذي صدر عام 1988 كتب أوريون: “على جبل النقب ثمة آلاف مواقع حضور الإنسان، المبنيّة من الحجارة المحليّة، بناءً أفقيّا منخفضًا، بعضها وجوديّ… والبعض الآخر روحانيّ”. كما عبّر عن موقفه من ماهيّة النحت فكتب: “النحت عبارة عن تصميم للكتلة بواسطة قوى في المكان والزمان. فهناك النحت التكتونيّ، والنحت البُركانيّ، والنحت النَيْزكيّ. جرن رمون هو نتاج للنحت التكتونيّ والنحت التآكليّ خلال ملايين السنين. والحديقة هي طريقة انضمام البشريّة إلى عمليات النحت الهائلة هذه”.
تتحول أقوال أوريون الشاعريّة لدى زائري الحديقة إلى تجربة فعليّة، أمام رهبة المناظر الطبيعيّة الخلابة ومنظر التماثيل على مرحلتيها معًا، والتي تفرض على الزائر التفكير في فعل الإنسان وتفاهته أمام فعل الخليقة.
ترميم الحديقة
في عام 2016 بادرت وزارة السياحة من خلال الشركة الحكوميّة للسياحة وبالتعاون مع المجلس المحليّ متسبيه رمون إلى مواصلة تطوير الحديقة. كان هذا المشروع حلقة من سلسلة متنزهات وطرقات ومناظر طبيعيّة على منحدر الجُرن، تبدأ من مدرسة “سديه هار” النقب، وتستمر على مسار مناظر جبل الجمل، إلى مُتمشى ألبيرت، ثم مركز الزوار ومسار للجولات شرقي فندق “بريشيت” على مشارف حديقة النحت الصحراوي.
هناك هدف مزدوج لتطوير المشهد: في النهار، خلق تجربة فريدة لجذب الزوار، وبما يتناسب مع روح المكان، حيث ينكشف الزائر على تماثيل المناظر الطبيعيّة العديدة عن طريق المتحف المفتوح؛ وفي الليل، ومن خلال الانتقال إلى فضاء محميّة “سماء الليل”، يختبر الزائر تجربة روحانيّة مختلفة كليًّا في الصحراء تحت قبة السماء. إضافة إلى إنشاء طريق سهلة الوصول إلى التماثيل لذوي الإعاقات.
يشمل مشروع الترميم تنظيم أماكن وقوف السيارات، غرس الأشجار، توجيه الزوار عن طريق مسار يشمل نقاط للاستراحة ومعلومات عن التماثيل، تطوير مركز مراقبة فريدة ومتاحة على حافة المنحدر، إعادة تأهيل المناطق الخصبة وخلق فرص جديدة لنشاطات الفنّانين، ومرشدي السياحة وأفراد المجتمع.
كتابة: إيتسو ريمر